سورة التوبة - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)}
فيه مسألتان: الأولى: قيل: قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس، لا يكلمون ولا يجالسون، فما لهم الآن؟ وما هذه الخاصة التي خصوا بها دوننا، فنزلت: {أَلَمْ يَعْلَمُوا} فالضمير في {يَعْلَمُوا} عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين. قال معناه ابن زيد. ويحتمل أن يعود إلى الذين تابوا وربطوا أنفسهم. وقوله تعالى: {هُوَ} تأكيد لانفراد الله سبحانه وتعالى بهذه الأمور. وتحقيق ذلك أنه لو قال: إن الله يقبل التوبة لاحتمل أن يكون قبول رسوله قبولا منه، فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك.
الثانية: قوله تعالى: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ} هذا نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها وأن الحق له عز وجل، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واسطة فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده، والله عز وجل حي لا يموت. وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً} ليس مقصورا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لاحد كم كما يربي أحد كم مهره حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ} و{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ}». قال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي صحيح مسلم: «لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه- في رواية- فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل» الحديث. وروي: «إن الصدقة لتقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله والله يضاعف لمن يشاء». قال علماؤنا رحمة الله عليهم في تأويل هذه الأحاديث: إن هذا كناية عن القبول والجزاء عليها، كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض تعطفا عليه بقوله: «يا بن آدم مرضت فلم تعدني» الحديث. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة. وخص اليمين والكف بالذكر إذ كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه أو يوضع له فيه، فخرج على ما يعرفونه، والله عز وجل منزه عن الجارحة. وقد جاءت اليمين في كلام العرب بغير معنى الجارحة، كما قال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين
أي هو مؤهل للمجد والشرف، ولم يرد بها يمين الجارحة، لان المجد معنى فاليمين التي تتلقى به رايته معنى. وكذلك اليمين في حق الله تعالى. وقد قيل: إن معنى: «تربو في كف الرحمن» عبارة عن كفة الميزان التي توزن فيها الأعمال، فيكون من باب حذف المضاف، كأنه قال. فتربو كفة ميزان الرحمن. وروي عن مالك والثوري وابن المبارك أنهم قالوا في تأويل هذه الأحاديث وما شابهها: أمروها بلا كيف، قال الترمذي وغيره. وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة.


{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا} خطاب للجميع. {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} أي بإطلاعه إياهم على أعمالكم.
وفي الخبر: «لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان».


{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}
نزلت في الثلاثة الذين تيب عليهم: كعب بن مالك وهلال بن أمية من بنى واقف ومرارة بن الربيع، وقيل: ابن ربعي العمرى ذكره المهدوي. كانوا قد تخلفوا عن تبوك وكانوا مياسر، على ما يأتي من ذكر هم. والتقدير: ومنهم آخرون مرجون، من أرجأته أي أخرته. ومنه قيل: مرجئة، لأنهم أخروا العمل. وقرأ حمزة والكسائي {مُرْجَوْنَ} بغير همزة، فقيل: هو من أرجيته أي أخرته.
وقال المبرد: لا يقال أرجيته بمعنى أخرته، ولكن يكون من الرجاء. {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} {إِمَّا} في العربية لاحد أمرين، والله عز وجل عالم بمصير الأشياء، ولكن المخاطبة للعباد على ما يعرفون، أي ليكن أمر هم عند كم على الرجاء لأنه ليس للعباد أكثر من هذا.

27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34